التعامل مع فئة معينة من المجتمع ,, بطريقة تختلف تماماً عن أسلوبنا المعتاد في التعامل مع بقية فئات المجتمع ..
هل يعدَ عيب فينـا ؟
أم أن " حالة " تلك الفئة .. هي التي تدفعنا للأسلوب المتخذ في التعامل ?
أود إقناع نفسي بـأن حالتهم كانت السبب في الطريق الذي دفعني في طريقة التعامل مع تلك الفئة ..
لكن ... !
.....
الفئة التي أتكلم عنها هم من بهم
" نقص وخلل عقلي في التفكير"
رغم أنهم يستطيعون المشي , التفكير البسيط , وتبادل الحديث معنا .. إلا أنهُ يصعب الإندماج معهم بشكل كلَي ..
يصعب علينا أن نتحدث بأريحة تامة معهم ..
لا أعلم لمـا ؟
لكن هنالك ألف عامل يتدخل في مشاعرنا ونحن نتحدث معهم ..
من الصعب جداً نسيان تلك العوامل " أولها عامل الشفقة " , والإنغماس في حديث مطوَل معهم ونسيان فكرة أنهم من " ذوي الإحتياجات الخاصة "
حين دخولي المرحلة الثانوية .. صادف أن تكون في فصلنا طالبتين أختين من تلك الفئة ..
تعجَبت وجودهما في مدرستنا !
المهم أني حينما كنت في المرحلة الأولى كانت هي وأختها معي , كنت أحياناً أراغب تصرفاتهم في الفصل ,
كيف يكتبون , كيف يستمعون للدرس , كيف ينتبهون لشرح الأستاذة ..
وكنت كثيراً ما أشعر بالشفقة عليهما بشدَة حين توقف الأستاذة إحداهن لتسألها وتحار في الإجابة .. بعينين محتارتين تبقى تناظر وتحرك أصابعها في محاولة للتفكير والتذكر ..
" أكره أن أرى مثل تلك المواقف " لأني لا أستطيع نسيانها ..
وأشعر بالعجز أمامها أيضاً ..
كانت إحداهن ولتكن " ز " أذكى بقليل من الأخرى ..
ولتكن " ف " ..
كانت تستطيع الإجابة أحياناً بعد محاولة طويلة شفهياً , وتستطيع
حل الأسئلة على الورق .. أما الأخرى فكانت حالتها أصعب من أختها ..
لم تكن هنا المشكلة التي عانيت منها ..
المشكلة أن تلك التي أسميتها " ف "
كانت متعلقة بي بشكل غريب أصبحت أخافه " ولا أعلم لما أخافه؟ "
بعد فترة من إنقضاء بداية الفصل الأول .. كانت لا ترفع عيناها ونظرها عني ..
كنت أجلس في الصف الثاني من جهة اليسار .. وكانت تجلس في الصف الثاني في المنتصف .. مما يتيح لها أن تنظر لي ..
ويتيح لي معرفة أنها تنظر لي " بأستمرار " من بداية الحصص حتى نهايتها !
وكانت كثيراً في أوقات " الفسحه " ما تأتي لتقف بقربي وتحدثني بأي شي يخطر في خاطرها , وتقول لي وتكرر :
فاطمة شـ شـ شخبارك .. شـ شـ شـ شمسويه ..
أشـ شـ شتقت لك .. " كانت تعاني قليلاً من صعوبة في التحدث "
كنت أعلم بأن قلبها أبيض , وأنها تفصح عما يجول في خاطرها لا أكثر ..
لكني كنت أسأل نفسي .. لماذا أنا من تعلَقت بي في الفصل من بين الجميع ؟!
صحيح أني كنت دائماً ما أنظر لها وأبتسم , ولكن تلك البسمات كانت تحمل
" أطناناً من شفقة " فلو كانت حقاً تعلم سرَ أبتساماتي لها , هل كانت ستحمل لي تلك المحبة التي تصارحني بها بين حين وحين ؟
في الحقيقة كنت لا أعلم كيف أتصرف معها ..
تلك فقط كانت مشكلتي .. بأني لا أعرف ماهي الطريقة السليمة في التعامل مع هكذا صنف من المجتمع ..
أخشى أن أؤذيها حين أبتعد عنها .. ولكني حقاً لا أعرف كيف أتحدث معها,
وعن ماذا !
أنا بطبيعتي لا أستطيع فتح أحاديث بسهولة مع أي أحد غير مقرَب لي بشدَة , فكيف الآن أستطيع فتح أحاديث مع " ف " هذه ؟!
وهكذا .. أنقضت السنة وهي دائمة النظر لي , دائمة الإبتسامة حين أنظر لها وأبتسم .. دائمة السؤال عن أحوالي , وبين حين وآخر تخبرني عن حبها لي ..
وأنا واقفة وأشعر بأني " مخنوقة " عاجزة عن فعل شيء !
أخبر صديقتي , بل صديقتي ترى ما يحدث معي .. وهي الأخرى لا تعلم طريقة صحيحة في التعامل ..
هكذا .. حتى أنتهت السنة وأنتقلت للمرحلة الثالثة وهي وأختها قد أعادتا السنة .. وكانت بين حين وآخر تأتي لتلقي عليَ التحية ..
لا أخفي الأمر .. فالشعور بأنك تجلس وشخص ما ينظر لك بأستمرار يسبب لك الضيق .. لكني كنت أصبر , فأنا أعلم بأن لا حل أبداً لهذه المعضلة , ومن المستحيل أن أقول لها أن تكفَ عن النظر لي ..
.
.
مرَت الأعوام .. وبعد أربع سنين من تخرجي من الثانوية , وفي سنة التطبيق العملي لي في سنتي الرابعة في الجامعة ..
في ذات المدرسة التي تخرجت منها من الثانوية ..
كنت أقف مع إحدى معلمات الرياضيات على سور المدرسة ..
لأصدم صدمة بخروج طالبة في الصف الثاني أدبي .. كانت هي
ذاتها تلك الطالبة " ف " ذاتها ذاتها لم تتغير .. لم تتخرَج !
لا زالت في المدرسة .. أشير عليها وأسأل المعلمة التي كانت معي : كيـــف ؟؟
لتجيبني بأنها لا زالت تعيد السنة , مرة تتجه للقسم العلمي ومرة للقسم الأدبي .. " ولم تفلح في كليهما " ..
بعدها في يوم آخر رأتني من بعيد .. وجائت مسرعة لي ضاحكة " فأيقنت أنها عرفتني "
لتقول : فـ فـاطمة .. شهالمفااجئة الحلوة , شخبـ ا ا رك ؟!
وأنا أجيبها بأبتسامة تملأ وجهي : أنا بخير .. أنتِ ما أخباركِ ؟
لتقول : أنا بخيـ يـ ر الحمدلله ..
شعرت بغصَة .. وألم ..
لأني أنظر لحالي وإلى أين وصلت .. وهي لازالت في ذات المكان
لا تتحرك !
أسأل نفسي " لمــاذا " ؟؟
من المذنب ؟!
هل هم أهلها بوضعها في مكان لا يجب أن تكون فيه , وربما وضعوها فيه لإقناع أنفسهم أنها طبيعية " ينقصها القليل من الذكاء فقط " .. وليسكتوا الناس ولا يقال بأن بناتهم في مدرسة " لذوي الإحتياجات الخاصة " ؟
وهي لا ذنب لها أن تتحمل ضياع سنين عمرها وهي في الحقيقة لا تكسب ولا تنتج أي شيء .. فقط تخسر سنوات عمرها هدراً ..
أم المدرسة التي قبلت بها كفرد فيها ؟
رغم علمهم أنها يجب أن لا تنتمي إلى هنا ؟!
لا لشيء أقول هذا إلا لكون المنطق أيضاً " أعتقد " يرى ما أرى ..
أشعر أحياناً بكره نفسي حين أتذكر بأني حينما كنت صغيرة أخاف
من هؤلاء الفئة من المجتمع , وأحاول أن أتجنب الجلوس معهم
خشية أن " أضرب " في أي لحظة من قبلهم ..
أو يحدث لي ما ليس في الحسبان .. خصوصاً أني رأيت مواقف جعلتني أخافهم حقاً ..
لكني حين أفكر في هذا الأمر , وأقول بأنهُ لو كان عندي لا سمح الله أخ أو أخت من تلك الفئة .. وشعر الناس بالخوف منهم .. وحاولوا الإبتعاد دائماً ..
أشعر بأني سأنفجر غضباً وبكاءاً في ذات اللحظة من طريقة معاملة الآخرين لهم ..
.
.
في النهاية .. تبقى قلوبهم قلوب أطفال .. وهم من أهل الجنة ..
هنيئاً لكل أم " لهؤلاء " لم تهمل " أبنها " أو " أبنتها " وهيئت نفسها وروحها لخدمتهم بقدر المستطاع ..
هنيئاً لها رضا الرب .. هنيئاً ..
على الهامش :
" لا أعلم لما تذكرت هذه الحكاية التي حدثت معي , وشعرت برغبة في خطَ بعض تفاصيلها , لا أعلم لمـا إما أن أتوقف لمدة طويلة عن التدوين ..
وإما أن أعود ولا أتمهل بترك فواصل بين تدوينة وأخرى !
أنها الرَوح .. حين تحنَ للكتابة .. لا ترحم القلم أعتقد ؛) "
جمعة مباركة للجميع ..