
في شاشةٍ عكست جنيناً ..
" لهُ من العمر سبعه شهور "
نظــرت لهُ وتبسَمــت ..
رأتهُ عـائماً في عالم مـن " جـوفهـا "
رأتهُ روحـاً قد تحرَكـ في "روحهــا"
أحسَت به يتقلَبُ في رحمها .. فتحسست ..
بباطن يديهـا ظاهر ما سكن جنينها به ..
قالت متبسَمة : لعلها تلك يداه التي لامست .. !
أو ربما قدماه التي بها قد أحسست .. !
أو ربمـا كلتاهما معاً .. !
قالت لهـا طبيبتهـا تصبَري ..
ما عاد يفصلُ بينكِ وبينهُ إلا زمــن ..
" ويــل قلبي " ما درت ..
أن الزمن في منظوري .. سنواات وقرن .. !
ودَعت طبيبتها .. ورحلت ..
مشتت ببطئ .. إعتادته ..
أتاها النداء :
هنــا هنــا يا رآحيل ..
كان زوجهـا ينتظرها خارج عيادة النساء ..
قال بلهفة لاتختلف عن لهفة رآحيل :
طمئني قلبي .. لا زال قلبُ صغيرنا ينبض .. ؟
لازالت روحهُ تعـانق في الرحمِ روحك .. ؟
أبتسمت .. ووضعت يدها على جنينها وقالت :
لا تقلق يا عمـاد ..
جنيننا بخير وعافية ..
أو ليست إبتسامتي لتعرف حالهُ كافية .. !
أظنُ روحي هي التي تعانق في الرحم روحه ..
أبتسم .. وأمسك يدها ,, وسارا معاً ببطئ ..
وكأنه يريد أن يشاركها ذلك الحمل الذي تحمله ..
كأنه يريد أن يخبرها بسيرهِ معها .. بالخطوات ذاتها ..
أنهُ معها .. يشعر ما تشعر هي به ..
ولو كـان بالأمكان .. لقاسمها ذلك الحمل ..
فقد تقاسمـا معاً .. لـ أربعة عشر عـاماً .. الأنتظار ذاته ..
تقاسما معـاً .. سماعهم حديث الجميع , وتهامس من حولهم عن أمرهم ..
تقاسما معـاً .. رحلـة العلاج التي طالت .. رحلة السعي للوصول إلى المبتغى ..
محاولة بعد محاولة .. وفشل يتلوه فشل .. وصبــرٌ في كل مره .. يشربا من كأسه بالنصيفة ..
تيأس .. فيشدُ هو على يدها .. وييأس فتشدُ هي على يده ..
مكملان لبعضهمـا .. بالرغم من مرارة ما يمران به ..
لكن ما الحيــلة ... !
فالأمر لله .. والأقدار خطَت على جبين الزمن ..
لله درك في كل شيء .. وأي شيء .. نحمدهُ على ذلك ..
إيمانهما بقضاء الله .. كان سبباً لهما بأن صبِرا ..
ولإيمانهما بأن الأمل بالله كبير .. سعـيا ..
الأمــل يعكس نورهُ فقط في أعين من يترقبه وينتظره ويسعى لهُ بصدق ..
لا في قلوبِ يائسه ..
أغلقت على الأمل وتناستهُ في أعماقها .. وتترقب أن يطلب الأمل منها العتق .. !
.. أنتظروا حتـى جاء ذلك اليـوم ..
هو .. خارج العيادة يحترق ..
وهي .. داخل العيادة تحترق ..
الفرق .. بأن زمن إحتراقها سينتهي قبله بدقائق معدودة .. لتنتقل لمرحلة أخرى أشدَ ..
أخرجت الطبيبه نتائج التحليل ..
" وأكــاد أنا الآن أسمـع دقات قلب عماد و رآحيل "
أبتسمت ..
وقالت : مبــروووك رآحيــل .. أنتِ حامل ..
في هذه اللحظــات .. كيف يجب أن تكون ردة الفعل .. ؟!
صمت .. أم صراخ .. أم بكاء .. أم ضحك هستيري ..
أغمضت عيناها , وفتحتهما من جديد " ربمـا ظنت أنها غفت ورأت حلماً قصير المدى "
قالت : دكتورة .. ما هي نتائج التحليل ؟؟
قالت : رآحيل عزيزتي .. أما سمعتي ما قلت لكِ للتو , لكني لا ألومك , الحمد لله .. أنتِ حامل من بعد طول إنتظار ..
أتَسعت بؤرة عيناها .. مرة دقيقة وهي في حالة صمت ..
قالت طبيبتها :عزيزتي مابكِ ؟ هل أنتِ بخير .. ؟
هزَت رأسها .. نظرت للطبيبة .. وقالت : هل تعنين بأني حامل .. أم لا .. ؟
هزَت الطبيبه رأسها بالأيجاب وأبتسمت ..
أنفجرت رآحيل بالبكاء .. تبكي وتبكي ..
لا تدري مالذي تبكيه ..!
سعادتها بخبر حملها ..
أم ربمـا تبكي تجرَعها المر في أنتظار طويل مضى ..
أم تبكي صبر زوجها .. وعطفه ومساندتهُ لها دائما ..
أم مـاذا .. ؟
أختلطت المشاعر عليها .. فقررت اللجوء للبكاء .. فهو تعبير يلجأ لهُ من أختلط عليه الحزن والفرح معاً ..
في أثناء بكائها .. طُرِق الباب ..
كان زوجها الذي أحرقهُ الإنتظار طويلاً .. فقرر الدخول ..
وجدها تبكي بشدة .. فربَت على كتِفيها ..
وقال : الحمد لله ياعزيزتي على كل حال , مابالك ألم نتفق أننا سنصبر ونحمد الله مهما جرى ..
أجابته الطبيبه : لكنها لا تبكي للسبب الذي تعتقده ..
أردف : إذن لما ؟
أجابت : مبــروك .. زوجتك حامل ..
ولأن الرجال عادة ما يصعب عليهم أظهار مشاعرهم ..
أبتسم .. وشد على يدها .. وقال : الحمد لله الحمد لله الحمد لله .. " إنَ بعد العسر يسر "
...........
في صباح أحد الأيام " من شهرها التـاسع "
الساعه السادسه صباحاً ..
أستيقظت وهي تشعر بألم شديد ..
لا تعلم , هو ألم عابر , أم ألم الولادة الذي لا تعرفه ..
بعد أن رأت أن الألم يأتيها بين حين وآخر .. ويزداد في كل مره ..
أيقظت عماد ..
الذي أسرع بدوره بالأتصال بوالدتها لتأتي معه ..
فهو أيضاً لا يعرف كيف يتصرف في مثل هذه الأوقات ..
ذهبوا إلى المستشفى معـاً ..
ساعات الأنتظار قاتلة ..
الدقائق بطيئة .. أنفاس عماد تختنق في داخله مع كل دقيقة ..
يطلب من الله سلامة رآحيل وصغيره ..
ووالدتها تجلس على كرسي الإنتظار .. فقدماها لا تحملانها لشدة خوفها ..
تدعو في سرها تارة .. وتجهر بالدعاء تارة أخرى ..
دعاء الأم .. وما أدراك ما دعائها ..
أنقضت 5 ساعات ,, 6 ,, 7 ...
.....
فتحت رآحيل عيناها ..
تبحث حولها .. ما من أحد ..
نادت : أمي ,, عمـاد .. أين أنتما .. ؟!
فجاءت لها الممرضة .. سألتها : أين من كانوا معي .. ؟
فأجبتها : لا أعلم ..
قالت : أين طفلي .. ؟ هل هو بخير .. ؟ هل أستطيع رأيته .. ؟
فأجابتها : لا أعلم .. فأنا أتيت للتو .. لم أرى طفلك ..
أنقبض قلبها .. أتصلت بزوجها لا يرد .. ووالدتها كذلك ..
أضطربت أعصابها ..
قالت للممرضة : أرجوكِ أذهبي وأسألي عن طفلي ..
خرجت الممرضة .. وطال غيابها ..
مضت ساعه .. من القلق والأضطراب , تراودها أفكار تخيفها فتطردها سريعاً ..
فهي لاتريد أن تفكر بشيء .. تقول في نفسها ربما أمر طارئ حدث وذهبا امي وعماد له ..
قطع صوت أفكارها دخول عماد لها ..
قالت : عماد أين أنت ؟؟ مالذي جرى ؟ أين أمي ؟ هل رأيت طفلنا ؟ أخبرهم أن يحضروه لي ..
قابلها بصمته ..
ما بالك ياعمـاد ؟؟ هل حدث شيء في منزلنا .. هل عائلتك بخير .. ؟
أمسك يدها كالعادة .. شدَ عليهما .. وقال :
أنتِ تؤمنين بقضاء الله عزيزتي ..
صــرخت : هل أمي بخير .. ؟ أم والدي ؟
أخبرني ياعماد .. لا توجع قلبي ..
لحظات صمته كانت تخنقها ..
هزَته .. أخبرني أرجوك ..
قال بثقل : بل هو طفلنــا ..
فزعت : لا لا لاتكذب علي .. هو بخير ..
أرجوك أذهب وأجلبه لي , قل لهم أريد أن أراه ..
فقد طال إنتظاري وإنتظارك له .. أرجووك أذهب ..
بدأت تصرخ أيتها الممرضة .. أجلبي صغيري لي أرجوكِ ..
بدأ يهدأ من روعها .. لكنهـا أبت أن تهدأ وأبت أن تصدق ..
قال من بين دموعه : رآحيل يكفي أرجوكِ أرحمي قلبي , صغيرنا مات .. مات ..
صـــرخت ..... وإختنقت صرختها ..
.
.
.
لتفتح عيناها في حضن أمها ..
.. أمها تكفكف أدمعها .. وتقول :
الحمد لله رب العالمين ..
رآحيل في حاله من الفزع : أمي هل مات صغيري ,, هل حقاً مات ..
الأم : مابالك يا أبنتي .. أذكرى الله ,, طفلك بخير وعافية .. أحمد الله بأن أعطاني العمر لأرى طفلك يا أبنتي ..
لقد ذهب عماد ليحضره لكِ ..
إحتضنت راحيل أمها وأُجهِشت بالبكاء .. وهي تقول : الحمد لله الحمد لله .. لقد كان حلماً ..
دخل عمـاد .. وهو يحمل أبنه , وكان في عيناه بريقاً لا يُدركُ معناه .. !!
هل لأنه قرَ عينهُ بصغيره .. أم ربما هي دموعٌ قد أحاطت بهالت عينيه ..
سعادته لكونه من اليوم أصبح أبـا .. لا يستطيع التعبير عنها ببعض كلماتِ ..
ولا ببعض تصرفات .. فكل ما كان منــه ..
أن أظهر ما يستطيع أظهاره .. وأخفى البـاقي في أعماق قلبه ..
قالت له والدة رآحيل : ياهلا بأبو أحمد .. ياهلا بالحامل والمحمول ..
أبتسم بنشوة ..
ووضع طفله بين يدي رآحيل .. أبتسمت أبتسامه .. ربما كـان لأمها القدرة على إدراكها ..
قالت أمها : كسعادتي يا أبنتِ حينما وضعوكِ بين يدي ..
قبَلت رآحيل يدا صغيرها .. قبَلت عيناه وجبينه ..
ضمتهُ لصدرها .. تلك الروح التي سكنتها .. وعانقتها دائما ..
تجسَدت الآن .. لتصبح بين يديها ..
همست في أذنه : أنا أمك يا صغيري .. أنا أمك ..
... ... ... ...
فهــل يدرك الأبنــاء .. بعضـاً من تلك المشــاعر .. ؟!
" قــــصة من وحــي الخيــآل "